فصل: تفسير الآيات رقم (1 - 7)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


سورة الذاريات

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 7‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا ‏(‏1‏)‏ فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا ‏(‏2‏)‏ فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا ‏(‏3‏)‏ فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا ‏(‏4‏)‏ إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ‏(‏5‏)‏ وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ ‏(‏6‏)‏ وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ ‏(‏7‏)‏‏}‏

‏{‏وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا‏}‏ يعني‏:‏ الرياح التي تذرو التراب ذروًا، يقال‏:‏ ذَرَت الريحُ الترابَ وأَذْرَت‏.‏

‏{‏فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا‏}‏ يعني‏:‏ السحاب تحمل ثقلا من الماء‏.‏

‏{‏فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا‏}‏ هي السفن تجري في الماء جريًا سهلا‏.‏

‏{‏فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا‏}‏ هي الملائكة يقسمون الأمور بين الخلق على ما أُمروا به، أقسم بهذه الأشياء لما فيها من الدلالة على صنعه وقدرته‏.‏

ثم ذكر المقسَمَ عليه فقال‏:‏ ‏{‏إِنَّما تُوعَدُونَ‏}‏ من الثواب والعقاب، ‏{‏لَصَادِقٌ‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِنَّ الدِّينَ‏}‏ ‏[‏الحساب والجزاء‏]‏ ‏{‏لَوَاقِعٌ‏}‏ لكائن‏.‏ ثم ابتدأ قسمًا آخر فقال‏:‏

‏{‏وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ‏}‏ قال ابن عباس وقتادة وعكرمة‏:‏ ذات الخلق الحسن المستوي، يقال للنسَّاج إذا نسج الثوب فأجاد‏:‏ ما أحسن حبكه‏!‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ ذات الزينة‏.‏ قال الحسن‏:‏ حبكت بالنجوم‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هي المتقنة البنيان‏.‏ وقال مقاتل والكلبي والضحاك‏:‏ ذات الطرائق كحبك الماء إذا ضربته الريح، وحبك الرمل والشعر الجعد، ولكنها لا ترى لبعدها من الناس، وهي جمع حباك وحبيكة، وجواب القسم قوله‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏8 - 14‏]‏

‏{‏إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ ‏(‏8‏)‏ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ ‏(‏9‏)‏ قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ ‏(‏10‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ ‏(‏11‏)‏ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ‏(‏13‏)‏ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ‏(‏14‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّكُمْ‏}‏ أي‏:‏ يا أهل مكة، ‏{‏لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ‏}‏ في القرآن وفي محمد صلى الله عليه وسلم، تقولون في القرآن‏:‏ سحر وكهانة وأساطير الأولين، وفي محمد صلى الله عليه وسلم‏:‏ ساحر وشاعر ومجنون‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏لفي قول مختلف‏"‏ أي‏:‏ مصدق ومكذب‏.‏

‏{‏يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ‏}‏ يصرف عن الإيمان به من صرف حتى يكذبه، يعني‏:‏ من حرمه الله الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن‏.‏ وقيل ‏"‏عن‏"‏ بمعنى‏:‏ من أجل، أي يصرف من أجل هذا القول المختلف أو بسببه عن الإيمان من صرف‏.‏ وذلك أنهم كانوا يتلقون الرجل إذا أراد الإيمان فيقولون‏:‏ إنه ساحر وكاهن ومجنون، فيصرفونه عن الإيمان، وهذا معنى قول مجاهد‏.‏

‏{‏قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ‏}‏ لعن الكذابون، يقال‏:‏ تخرص على فلان الباطل، وهم المقتسمون الذين اقتسموا عِقَاب مكة، واقتسموا القول في النبي صلى الله عليه وسلم ليصرفوا الناس عن دين الإسلام‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هم الكهنة‏.‏

‏{‏الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ‏}‏ غفلة وعمى وجهالة، ‏{‏سَاهُونَ‏}‏ لاهُون غافلون عن أمر الآخرة، والسهو‏:‏ الغفلة عن الشيء، وهو ذهاب القلب عنه‏.‏

‏{‏يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ‏}‏ يقولون‏:‏ يا محمد متى يوم الجزاء، يعني‏:‏ يوم القيامة تكذيبًا واستهزاء‏.‏

قال الله عز وجل‏:‏ ‏{‏يَوْمَ هُمْ‏}‏ أي يكون هذا الجزاء في يوم هم، ‏{‏عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ‏}‏ أي‏:‏ يعذبون ويحرقون بها كما يفتن الذهب بالنار‏.‏ وقيل‏:‏ ‏"‏على‏"‏ بمعنى الباء أي بالنار، وتقول لهم خزنة النار‏:‏ ‏{‏ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ‏}‏ عذابكم، ‏{‏هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ‏}‏ في الدنيا تكذيبًا به‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏15 - 18‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ ‏(‏15‏)‏ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ ‏(‏16‏)‏ كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ ‏(‏17‏)‏ وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ‏(‏18‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ‏}‏ أعطاهم، ‏{‏رَبُّهُمْ‏}‏ من الخير والكرامة، ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ‏}‏ قبل دخولهم الجنة، ‏{‏مُحْسِنِينَ‏}‏ في الدنيا‏.‏

‏{‏كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ‏}‏ والهجوع النوم بالليل دون النهار، ‏"‏وما‏"‏ صلة، والمعنى‏:‏ كانوا يهجعون قليلا من الليل، أي يصلون أكثر الليل‏.‏

وقيل‏:‏ معناه كان الليل الذي ينامون فيه كله قليلا وهذا معنى قول سعيد بن جبير عن ابن عباس، يعني‏:‏ كانوا قلَّ ليلة تمر بهم إلا صَلَّوا فيها شيئًا، إما من أولها أو من أوسطها‏.‏ قال أنس بن مالك‏:‏ كانوا يصلون ما بين المغرب والعشاء‏.‏ وقال محمد بن علي‏:‏ كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة‏.‏ قال مطرف بن عبد الله بن الشخير‏:‏ قل ليلة أتت عليهم هجعوها كلها‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كانوا لا ينامون كل الليل‏.‏

ووقف بعضهم على قوله‏:‏ ‏"‏قليلا‏"‏ أي‏:‏ كانوا من الناس قليلا ثم ابتدأ‏:‏ ‏"‏من الليل ما يهجعون‏"‏، وجعله جحدًا أي‏:‏ لا ينامون بالليل البتة، بل يقومون للصلاة والعبادة، وهو قول الضحاك ومقاتل‏.‏ ‏{‏وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ‏}‏ قال الحسن‏:‏ لا ينامون من الليل إلا أقله، وربما نشطوا فمدوا إلى السحر، ثم أخذوا بالأسحار في الاستغفار‏.‏ وقال الكلبي ومجاهد ومقاتل‏:‏ وبالأسحار يصلون، وذلك أن صلاتهم بالأسحار لطلب المغفرة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أخبرنا أبو محمد الحسن بن أحمد بن محمد المخلدي، أخبرنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج، حدثنا قتيبة، حدثنا يعقوب بن عبدالرحمن، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ينزل الله إلى سماء الدنيا كل ليلة حين يبقى ثلث الليل فيقول‏:‏ أنا الملك أنا الملك، من الذي يدعوني فأستجيب له‏؟‏ من الذي يسألني فأعطيه‏؟‏ من الذي يستغفرني فأغفر له‏؟‏ ‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا علي بن عبد الله، حدثنا سفيان، حدثنا سليمان بن أبي مسلم عن طاوس سمع ابن عباس قال‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد، قال‏:‏ ‏"‏اللهم لك الحمد أنت قَيِّمُ السموات والأرض ومن فيهن، ‏[‏ولك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن، ولك الحمد أنت ملك السموات والأرض ومن فيهن‏]‏ ولك الحمد أنت الحق، ووعدك الحق، ولقاؤك حق، وقولك حق، والجنة حق والنار حق، والنبيون حق، ومحمد صلى الله عليه وسلم حق، والساعة حق، اللهم لك أسلمت وبك آمنت وعليك توكلت، وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت، فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت ولا إله غيرك‏"‏‏.‏ قال سفيان‏:‏ وزاد عبد الكريم أبو أمية‏:‏ ‏"‏ولا حول ولا قوة إلا بالله‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي، أخبرنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا صدقة، أخبرنا الوليد عن الأوزاعي، حدثني عمير بن هانىء، حدثني جنادة بن أبي أمية، حدثني عبادة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏من تعارَّ من الليل فقال‏:‏ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، وسبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، ثم قال‏:‏ اللهم اغفر لي، أو دعا استجيب له، فإن توضأ وصلى قبلت صلاته‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏19‏]‏

‏{‏وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ‏(‏19‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ‏}‏ السائل‏:‏ الذي يسأل الناس، والمحروم‏:‏ الذي ليس له في الغنائم سهم، ولا يجري عليه من الفيء شيء، هذا قول ابن عباس وسعيد بن المسيب، قالا ‏[‏المحروم الذي‏]‏ ليس له في الإسلام سهم، ومعناه في اللغة‏:‏ الذي منع الخير والعطاء‏.‏

وقال قتادة والزهري‏:‏ ‏"‏المحروم‏"‏ المتعفف الذي لا يسأل‏.‏

وقال زيد بن أسلم‏:‏ هو المصاب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته‏.‏ وهو قول محمد بن كعب القرظي، قال‏:‏ المحروم صاحب الجائحة ثم قرأ‏:‏ ‏"‏إنا لمغرمون بل نحن محرومون‏"‏ ‏[‏الواقعة - 66 - 67‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏20 - 23‏]‏

‏{‏وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ ‏(‏20‏)‏ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ ‏(‏21‏)‏ وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ ‏(‏22‏)‏ فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِي الأرْضِ آيَاتٌ‏}‏ عبر، ‏{‏لِلْمُوقِنِينَ‏}‏ إذا ساروا فيها من الجبال والبحار والأشجار والثمار وأنواع النبات‏.‏ ‏{‏وَفِي أَنْفُسِكُمْ‏}‏ آيات، إذ كانت نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظمًا إلى أن نفخ فيها الروح‏.‏

وقال عطاء عن ابن عباس‏:‏ يريد اختلاف الألسنة والصور والألوان والطبائع‏.‏

وقال ابن الزبير‏:‏ يريد سبيل الغائط والبول يأكل ويشرب من مدخل واحد ويخرج من سبيلين‏.‏

‏{‏أَفَلا تُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏قال مقاتل‏]‏ أفلا تبصرون كيف خلقكم فتعرفوا قدرته على البعث‏.‏

‏{‏وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد ومقاتل‏:‏ يعني المطر الذي هو سبب الأرزاق، ‏{‏وَمَا تُوعَدُونَ‏}‏ قال عطاء‏:‏ من الثواب والعقاب‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من الخير والشر‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ وما توعدون من الجنة والنار، ثم أقسم بنفسه فقال‏:‏ ‏{‏فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ‏}‏ أي‏:‏ ما ذكرت من أمر الرزق لحق، ‏{‏مِثْلَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر عن عاصم‏:‏ ‏"‏مثل‏"‏ برفع اللام بدلا من ‏"‏الحق‏"‏، وقرأ الآخرون بالنصب أي كمثل، ‏{‏مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ‏}‏ فتقولون‏:‏ لا إله إلا الله‏.‏ وقيل‏:‏ شبه تحقيق ما أخبر عنه بتحقيق نطق الآدمي، كما تقول‏:‏ إنه لحق كما أنت ها هنا، وإنه لحق كما أنك تتكلم، والمعنى‏:‏ إنه في صدقه ووجوده كالذي تعرفه ضرورة‏.‏ قال بعض الحكماء‏:‏ يعني‏:‏ كما أن كل إنسان ينطق بلسان نفسه لا يمكنه أن ينطق بلسان غيره فكذلك كل إنسان يأكل رزق نفسه الذي قسم له، ولا يقدر أن يأكل رزق غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24 - 29‏]‏

‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ ‏(‏24‏)‏ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ ‏(‏25‏)‏ فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ ‏(‏26‏)‏ فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ ‏(‏27‏)‏ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ ‏(‏28‏)‏ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ ‏(‏29‏)‏‏}‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ‏}‏، ذكرنا عددهم في سورة هود ‏{‏الْمُكْرَمِينَ‏}‏، ‏[‏قيل‏:‏ سماهم مكرمين‏]‏ لأنهم كانوا ملائكة كرامًا عند الله، وقد قال الله تعالى في وصفهم‏:‏ ‏"‏بل عباد مكرمون‏"‏ ‏[‏الأنبياء - 26‏]‏ وقيل‏:‏ لأنهم كانوا ضيف إبراهيم وكان إبراهيم أكرم الخليقة، وضيف الكرام مكرمون‏.‏

وقيل‏:‏ لأن إبراهيم عليه السلام أكرمهم بتعجيل قراهم، والقيام بنفسه عليهم بطلاقة الوجه‏.‏

وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد‏:‏ خدمته إياهم بنفسه‏.‏

وروي عن ابن عباس‏:‏ سَمَّاهم مكرمين لأنهم جاؤوا غير مدعوين‏.‏ وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه‏"‏‏.‏

‏{‏إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ‏}‏، أي‏:‏ غرباء لا نعرفكم، قال ابن عباس‏:‏ قال في نفسه هؤلاء قوم لا نعرفهم‏.‏ وقيل‏:‏ إنما أنكر أمرهم لأنهم دخلوا عليه من غير استئذان‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ أنكر سلامهم في ذلك الزمان وفي تلك الأرض‏.‏

‏{‏فَرَاغَ‏}‏، فعدل ومال، ‏{‏إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ‏}‏، مشوي‏.‏

‏{‏فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ‏}‏، ليأكلوا فلم يأكلوا، ‏{‏قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ‏}‏، أي‏:‏ صيحة، قيل‏:‏ لم يكن ذلك إقبالا من مكان إلى مكان، وإنما هو كقول القائل‏:‏ أقبل يشتمني، بمعنى أخذ في شتمي، أي أخذت تُوَلْوِلُ كما قال‏:‏ ‏"‏قالت يا ويلتي‏"‏، ‏[‏هود - 72‏]‏، ‏{‏فَصَكَّتْ وَجْهَهَا‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ لطمت وجهها‏.‏ وقال الآخرون‏:‏ جمعت أصابعها فضربت جبينها تعجبًا، كعادة النساء إذا أنكرن شيئًا، وأصل الصك‏:‏ ضرب الشيء بالشيء العريض‏.‏

‏{‏وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ‏}‏، مجازه‏:‏ أتلد عجوز عقيم‏؟‏ وكانت سارة لم تلد قبل ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30 - 37‏]‏

‏{‏قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ‏(‏30‏)‏ قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ ‏(‏31‏)‏ قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ ‏(‏32‏)‏ لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ ‏(‏33‏)‏ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ ‏(‏34‏)‏ فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏35‏)‏ فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏36‏)‏ وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏قَالُوا كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكِ‏}‏، أي كما قلنا لك قال ربك إنك ستلدين غلامًا، ‏{‏إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ ‏[‏يعني إبراهيم‏]‏ ‏{‏فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ‏}‏، يعني‏:‏ قوم لوط‏.‏

‏{‏لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً‏}‏، معلّمة، ‏{‏عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ للمشركين، والشرك أسرف الذنوب وأعظمها‏.‏

‏{‏فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا‏}‏، أي‏:‏ في قرى قوم لوط، ‏{‏مِنَ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، وذلك قوله‏:‏ ‏"‏فأسر بأهلك بقطع من الليل‏"‏ ‏[‏هود - 81‏]‏‏.‏

‏{‏فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ‏}‏، أي غير أهل بيت، ‏{‏مِنَ الْمُسْلِمِينَ‏}‏، يعني لوطًا وابنتيه، وصفهم الله تعالى بالإيمان والإسلام جميعًا لأنه ما من مؤمن إلا وهو مسلم‏.‏

‏{‏وَتَرَكْنَا فِيهَا‏}‏، أي في مدينة قوم لوط، ‏{‏آيَةً‏}‏، عبرة، ‏{‏لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الألِيمَ‏}‏، أي‏:‏ علامة للخائفين تدلهم على أن الله تعالى أهلكهم فيخافون مثل عذابهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 45‏]‏

‏{‏وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏39‏)‏ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ ‏(‏40‏)‏ وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ‏(‏41‏)‏ مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ ‏(‏42‏)‏ وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ‏(‏43‏)‏ فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ ‏(‏44‏)‏ فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ ‏(‏45‏)‏‏}‏

‏{‏وَفِي مُوسَى‏}‏، أي‏:‏ وتركنا في إرسال موسى آية وعبرة‏.‏ وقيل‏:‏ هو معطوف على قوله‏:‏ ‏"‏وفي الأرض آيات للموقنين‏"‏، ‏[‏وفي موسى‏]‏ ‏{‏إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏، بحجة ظاهرة‏.‏

‏{‏فَتَوَلَّى‏}‏، فأعرض وأدبر عن الإيمان، ‏{‏بِرُكْنِهِ‏}‏، أي بجمعه وجنوده الذين كانوا يتقوى بهم، كالركن الذي يقوى به البنيان، نظيره‏:‏ ‏"‏أو آوي إلى ركن شديد‏"‏ ‏[‏هود - 80‏]‏، ‏{‏وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏، قال أبو عبيدة‏:‏ ‏"‏أو‏"‏ بمعنى الواو‏.‏

‏{‏فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ‏}‏، أغرقناهم فيه، ‏{‏وَهُوَ مُلِيمٌ‏}‏ أي‏:‏ آت بما يلام عليه من دعوى الربوبية وتكذيب الرسول‏.‏

‏{‏وَفِي عَادٍ‏}‏، أي‏:‏ وفي إهلاك عاد أيضًا آية، ‏{‏إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ‏}‏، وهي التي لا خير فيها ولا بركة ولا تلقح شجرًا ولا تحمل مطرًا‏.‏

‏{‏مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ‏}‏، من أنفسهم وأنعامهم وأموالهم، ‏{‏إِلا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ‏}‏، كالشيء الهالك البالي، وهو نبات الأرض إذا يبس وَدِيسَ‏.‏ قال مجاهد‏:‏ كالتبن اليابس‏.‏ قال قتادة‏:‏ كرميم الشجر‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ كالتراب المدقوق‏.‏ وقيل‏:‏ أصله من العظم البالي‏.‏

‏{‏وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ‏}‏، يعني وقت فناء آجالهم، وذلك أنهم لما عقروا الناقة قيل لهم‏:‏ تمتعوا ثلاثة أيام‏.‏

‏{‏فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ‏}‏، يعني بعد مضي الأيام الثلاثة، وهي الموت في قول ابن عباس، قال مقاتل‏:‏ يعني العذاب، و‏"‏الصاعقة‏"‏‏:‏ كل عذاب مهلك، وقرأ الكسائي‏:‏ ‏"‏الصعقة‏"‏، وهي الصوت الذي يكون من الصاعقة، ‏{‏وَهُمْ يَنْظُرُونَ‏}‏، يرون ذلك عيانًا‏.‏

‏{‏فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ‏}‏، فما قاموا بعد نزول العذاب بهم ولا قدروا على نهوض‏.‏ قال قتادة‏:‏ لم ينهضوا من تلك الصرعة، ‏{‏وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ‏}‏، ممتنعين مِنَّا‏.‏ قال قتادة‏:‏ ما كانت عندهم قوة يمتنعون بها من الله‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏46 - 52‏]‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ ‏(‏46‏)‏ وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ ‏(‏47‏)‏ وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ ‏(‏48‏)‏ وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏49‏)‏ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏50‏)‏ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ ‏(‏51‏)‏ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ‏(‏52‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَوْمَ نُوحٍ‏}‏، قرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏وقوم‏"‏ بجر الميم، أي‏:‏ وفي قوم نوح، وقرأ الآخرون بنصبها بالحمل على المعنى، وهو أن قوله‏:‏ ‏"‏فأخذناه وجنوده فنبذناهم في اليم‏"‏، معناه‏:‏ أغرقناهم وأغرقنا قوم نوح‏.‏ ‏{‏مِنْ قَبْلُ‏}‏، أي‏:‏ من قبل هؤلاء، وهم عاد وثمود وقوم فرعون‏.‏ ‏{‏إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ‏}‏، بقوة وقدرة، ‏{‏وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ‏}‏، قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ قادرون‏.‏ وعنه أيضًا‏:‏ لموسعون الرزق على خلقنا‏.‏ وقيل‏:‏ ذو سعة‏.‏ قال الضحاك‏:‏ أغنياء، دليله‏:‏ قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏على الموسع قدره‏"‏ ‏[‏البقرة - 236‏]‏، قال الحسن‏:‏ مطيقون‏.‏

‏{‏وَالأرْضَ فَرَشْنَاهَا‏}‏، بسطناها ومهدناها لكم، ‏{‏فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ‏}‏، الباسطون نحن‏:‏ قال ابن عباس‏:‏ نعم ما وَطَّأتُ لعبادي‏.‏

‏{‏وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ‏}‏، صنفين ونوعين مختلفين كالسماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والإنس، والذكر والأنثى، والنور والظلمة، والإيمان والكفر، والسعادة والشقاوة، والحق والباطل، والحلو والمر‏.‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏، فتعلمون أن خالق الأزواج فرد‏.‏

‏{‏فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ‏}‏، فاهربوا من عذاب الله إلى ثوابه، بالإيمان والطاعة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ فروا منه إليه واعملوا بطاعته‏.‏ وقال سهل بن عبد الله‏:‏ فروا مما سوى الله إلى الله، ‏{‏إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

‏{‏كَذَلِكَ‏}‏، أي‏:‏ كما كذبك قومك وقالوا ساحر أو مجنون كذلك، ‏{‏مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ من قبل كفار مكة، ‏{‏مِنْ رَسُولٍ إِلا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏53 - 56‏]‏

‏{‏أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏53‏)‏ فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ ‏(‏54‏)‏ وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ‏(‏55‏)‏ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ ‏(‏56‏)‏‏}‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏أَتَوَاصَوْا بِهِ‏}‏، أي‏:‏ أوصى أولهم آخرهم وبعضهم بعضًا بالتكذيب وتواطؤا عليه‏؟‏ والألف فيه للتوبيخ، ‏{‏بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏، قال ابن عباس‏:‏ حملهم الطغيان فيما أعطيتهم ووسعت عليهم على تكذيبك، ‏{‏فَتَوَلَّ عَنْهُمْ‏}‏، فأعرض عنهم، ‏{‏فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ‏}‏، لا لوم عليك فقد أديت الرسالة وما قصرت فيما أمرت به‏.‏

قال المفسرون‏:‏ لما نزلت هذه الآية حزن رسول الله صلى الله عليه وسلم واشتد ذلك على أصحابه، وظنوا أن الوحي قد انقطع، وأن العذاب قد حضر إذ أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يتولى عنهم، فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ‏}‏، فطابت أنفسهم‏.‏

قال مقاتل‏:‏ معناه عظ بالقرآن كفار مكة، فإن الذكرى تنفع من ‏[‏سبق‏]‏ في علم الله أن يؤمن منهم‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم‏.‏

‏{‏وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ‏}‏، قال الكلبي والضحاك وسفيان‏:‏ هذا خاص لأهل طاعته من الفريقين، يدل عليه قراءة ابن عباس‏:‏ ‏"‏وما خلقت الجن والإنس - من المؤمنين - إلا ليعبدون‏"‏، ثم قال في أخرى‏:‏ ‏"‏ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس‏"‏، ‏[‏الأعراف - 79‏]‏‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ وما خلقت السعداء من الجن والإنس إلا لعبادتي والأشقياء منهم إلا لمعصيتي، وهذا معنى قول زيد بن أسلم، قال‏:‏ هو على ما جبلوا عليه من الشقاوة والسعادة‏.‏

وقال علي بن أبي طالب‏:‏ ‏"‏إلا ليعبدون‏"‏ أي إلا لآمرهم أن يعبدوني وأدعوهم إلى عبادتي، يؤيده قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا‏"‏‏.‏ ‏[‏التوبة - 31‏]‏‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ إلا ليعرفوني‏.‏ وهذا أحسن لأنه لو لم يخلقهم لم يعرف وجوده وتوحيده، دليله‏:‏ قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله‏"‏ ‏[‏الزخرف - 87‏]‏‏.‏

وقيل‏:‏ معناه إلا ليخضعوا إليّ ويتذللوا، ومعنى العبادة في اللغة‏:‏ التذلل والانقياد، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله، متذلل لمشيئته لا يملك أحد لنفسه خروجًا عما خلق عليه‏.‏

وقيل‏:‏ ‏"‏إلا ليعبدون‏"‏ إلا ليوحدوني، فأما المؤمن فيوحده في الشدة والرخاء، وأما الكافر فيوحده في الشدة والبلاء دون النعمة والرخاء، بيانه قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين‏"‏‏.‏ ‏[‏العنكبوت - 65‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57 - 60‏]‏

‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ ‏(‏57‏)‏ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ‏(‏58‏)‏ فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ ‏(‏59‏)‏ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ‏(‏60‏)‏‏}‏

‏{‏مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ‏}‏، أي‏:‏ أن يرزقوا أحدًا من خلقي ولا أن يرزقوا أنفسهم، ‏{‏وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ‏}‏، أي‏:‏ أن يطعموا أحدًا من خلقي، وإنما أسند الإطعام إلى نفسه، لأن الخلق عيال الله ومن أطعم عيال أحد فقد أطعمه‏.‏ كما جاء في الحديث يقول الله تعالى‏:‏ ‏"‏استطعمتك فلم تطعمني‏"‏ أي‏:‏ لم تطعم عبدي، ثم بين أن الرازق هو لا غيره فقال‏:‏

‏{‏إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ‏}‏، يعني‏:‏ لجميع خلقه، ‏{‏ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ‏}‏، وهو القوي المقتدر المبالغ في القوة والقدرة‏.‏

‏{‏فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏، كفروا من أهل مكة، ‏{‏ذَنُوبًا‏}‏، نصيبًا من العذاب ‏{‏مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ‏}‏، مثل نصيب أصحابهم الذين هلكوا من قوم نوح وعاد وثمود، وأصل ‏"‏الذَّنُوب‏"‏ في اللغة‏:‏ الدلو العظيمة المملوءة ماء، ثم استعمل في الحظ والنصيب، ‏{‏فَلا يَسْتَعْجِلُونِ‏}‏، بالعذاب يعني أنهم أُخِّروا إلى يوم القيامة‏.‏

يدل عليه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ‏}‏‏.‏ ‏{‏فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ‏}‏ يعني‏:‏ يوم القيامة، وقيل‏:‏ يوم بدر‏.‏

سورة الطور

مكية

تفسير الآيات رقم ‏[‏1 - 5‏]‏

بسم الله الرحمن الرحيم

‏{‏وَالطُّورِ ‏(‏1‏)‏ وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ‏(‏2‏)‏ فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ‏(‏3‏)‏ وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ‏(‏4‏)‏ وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ‏(‏5‏)‏‏}‏

‏{‏وَالطُّورِ‏}‏ أراد به الجبل الذي كلم الله تعالى عليه موسى عليه السلام بالأرض المقدسة، أقسم الله تعالى به‏.‏

‏{‏وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ‏}‏ مكتوب‏.‏

‏{‏فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ‏}‏‏"‏والرق‏"‏‏:‏ ما يكتب فيه، وهو أديم الصحف، و‏"‏المنشور‏"‏‏:‏ المبسوط، واختلفوا في هذا الكتاب، قال الكلبي‏:‏ هو ما كتب الله بيده لموسى من التوراة وموسى يسمع صرير القلم‏.‏

وقيل‏:‏ هو اللوح المحفوظ‏.‏ وقيل‏:‏ دواوين الحفظة تخرج إليهم يوم القيامة منشورة، فآخذ بيمينه وآخذ بشماله‏.‏ دليله قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏ونخرج له يوم القيامة كتابًا يلقاه منشورًا‏"‏، ‏[‏الإسراء - 13‏]‏‏.‏

‏{‏وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ‏}‏ بكثرة الغاشية والأهل، وهو بيت في السماء حذاء العرش بحيال الكعبة يقال له‏:‏ الضُّرَاح، حرمته في السماء كحرمة الكعبة في الأرض، يدخله كل يوم سبعون ألفًا من الملائكة يطوفون به ويصلون فيه ثم لا يعودون إليه أبدًا‏.‏

‏{‏وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ‏}‏ يعني‏:‏ السماء، نظيره قوله عز وجل‏:‏ ‏"‏وجعلنا السماء سقفًا محفوظًا‏"‏‏.‏ ‏[‏الأنبياء - 32‏]‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏6 - 8‏]‏

‏{‏وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ‏(‏6‏)‏ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ‏(‏7‏)‏ مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ‏(‏8‏)‏‏}‏

‏{‏وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ‏}‏ قال محمد بن كعب القرظي والضحاك‏:‏ يعني الموقد المحمى بمنزلة التنور المسجور، وهو قول ابن عباس، وذلك ما روي أن الله تعالى يجعل البحار كلها يوم القيامة نارا فيزاد بها في نار جهنم، كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏وإذا البحار سجرت‏"‏، ‏[‏التكوير - 6‏]‏ وجاء في الحديث عن عبدالله بن عمرو قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يركبن رجل بحرًا إلا غازيًا أو معتمرًا أو حاجًا، فإن تحت البحر نارًا وتحت النار بحرًا‏"‏‏.‏

وقال مجاهد والكلبي‏:‏ ‏"‏المسجور‏"‏‏:‏ المملوء، يقال‏:‏ سجرت الإناء إذا ملأته‏.‏

وقال الحسن، وقتادة، وأبو العالية‏:‏ هو اليابس الذي قد ذهب ماؤه ونضب

وقال الربيع بن أنس‏:‏ المختلط العذب بالمالح‏.‏

وروى الضحاك عن النزال بن سبرة عن عليّ أنه قال في البحر المسجور‏:‏ هو بحر تحت العرش، غمره كما بين سبع سموات إلى سبع أرضين، فيه ماء غليظ يقال له‏:‏ بحر الحيوان‏.‏ يمطر العباد بعد النفخة الأولى منه أربعين صباحًا فينبتون في قبورهم‏.‏ هذا قول مقاتل‏:‏ أقسم الله بهذه الأشياء‏.‏ ‏{‏إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ‏}‏ نازل كائن‏.‏

‏{‏مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ‏}‏ مانع قال جبير بن مطعم‏:‏ قدمت المدينة لأكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسارى بدر فدفعت إليه وهو يصلي بأصحابه المغرب، وصوته يخرج من المسجد فسمعته يقرأ ‏"‏والطور‏"‏ إلى قوله ‏"‏إن عذاب ربك لواقع ماله من دافع‏"‏، فكأنما صدع قلبي حين سمعته، ولم يكن أسلم يومئذ، قال‏:‏ فأسلمت خوفًا من نزول العذاب، وما كنت أظن أني أقوم من مكاني حتى يقع بي العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9 - 18‏]‏

‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ‏(‏9‏)‏ وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ‏(‏10‏)‏ فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ‏(‏11‏)‏ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ‏(‏12‏)‏ يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ‏(‏13‏)‏ هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ‏(‏14‏)‏ أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ ‏(‏15‏)‏ اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏16‏)‏ إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ ‏(‏17‏)‏ فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ ‏(‏18‏)‏‏}‏

ثم بَيَّنَ أنه متى يقع فقال‏:‏ ‏{‏يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا‏}‏ أي‏:‏ تدور كدوران الرحى وتتكفأ بأهلها تكفؤَ السفينة‏.‏ قال قتادة‏:‏ تتحرك‏.‏ قال عطاء الخراساني‏:‏ تختلف أجزاؤها بعضها في بعض‏.‏ وقيل‏:‏ تضطرب، و‏"‏المور‏"‏ يجمع هذه المعاني، فهو في اللغة‏:‏ الذهاب والمجيء والتردد والدوران والاضطراب‏.‏

‏{‏وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا‏}‏ فتزول عن أماكنها وتصير هباءً منثورًا‏.‏

‏{‏فَوَيْل‏}‏ فشدة عذاب، ‏{‏يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ‏}‏ يخوضون في الباطل يلعبون غافلين لاهين‏.‏

‏{‏يَوْمَ يُدَعُّونَ‏}‏ يدفعون، ‏{‏إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا‏}‏ دفعًا بعنف وجفوة، وذلك أن خزنة جهنم يغلون أيديهم إلى أعناقهم، ويجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، ثم يدفعون بهم إلى النار دفعًا على وجوههم، وزجًّا في أقفيتهم حتى يَرِدُوا النار، فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها‏:‏

‏{‏هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ‏}‏ في الدنيا‏.‏ ‏{‏أَفَسِحْرٌ هَذَا‏}‏ وذلك أنهم كانوا ينسبون محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى السحر، وإلى أنه يغطي على الأبصار بالسحر، فَوُبِّخوا به، وقيل لهم‏:‏ ‏{‏أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏اصْلَوْهَا‏}‏ قاسوا شدتها، ‏{‏فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ الصبر والجزع، ‏{‏إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ فَاكِهِينَ‏}‏ معجبين بذلك ناعمين ‏{‏بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ‏}‏ ويقال لهم‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19 - 21‏]‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏19‏)‏ مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ ‏(‏20‏)‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ‏(‏21‏)‏‏}‏

‏{‏كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا‏}‏ مأمون العاقبة من التخمة والسقم، ‏{‏بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ‏}‏ موضوعة بعضها إلى جنب بعض، ‏{‏وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ‏}‏ قرأ أبو عمرو‏:‏ ‏"‏وأتبعناهم‏"‏، بقطع الألف على التعظيم، ‏"‏ذرياتهم‏"‏، بالألف وكسر التاء فيهما لقوله‏:‏ ‏"‏ألحقنا بهم‏"‏ ‏"‏وما ألتناهم‏"‏، ليكون الكلام على نسق واحد‏.‏

وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏واتبعتهم‏"‏ بوصل الألف وتشديد التاء بعدها وسكون التاء الأخيرة‏.‏

ثم اختلفوا في ‏"‏ذريتهم‏"‏‏:‏ قرأ أهل المدينة الأولى بغير ألف وضم التاء، والثانية بالألف وكسر التاء، وقرأ أهل الشام ويعقوب كلاهما بالألف وكسر التاء في الثانية، وقرأ الآخرون بغير ألف فيهما ورفع التاء في الأولى ونصبها في الثانية‏.‏

واختلفوا في معنى الآية، فقال قوم‏:‏ معناها والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان، يعني‏:‏ أولادهم الصغار والكبار، فالكبار بإيمانهم بأنفسهم، والصغار بإيمان آبائهم، فإن الولد الصغير يحكم بإسلامه تبعًا لأحد الأبوين ‏{‏أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ‏}‏ المؤمنين ‏[‏في الجنة بدرجاتهم وإن لم يبلغوا بأعمالهم درجات آبائهم‏]‏ تكرمة لآبائهم لتقرَّ بذلك أعينهم‏.‏ وهي رواية سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معناه والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم البالغون بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم الصغار الذين لم يبلغوا الإيمان بإيمان آبائهم‏.‏ وهو قول الضحاك، ورواية العوفي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، أخبر الله عز وجل أنه يجمع لعبده المؤمن ذريته في الجنة كما كان يحب في الدنيا أن يجتمعوا إليه، يدخلهم الجنة بفضله ويلحقهم بدرجته بعمل أبيه، من غير أن ينقص الآباء من أعمالهم شيئًا، فذلك قوله‏:‏ ‏{‏وَمَا أَلَتْنَاهُمْ‏}‏ قرأ ابن كثير بكسر اللام، والباقون بفتحها أي ما نقصناهم يعني الآباء ‏{‏مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرني الحسين بن محمد بن عبدالله الحديثي، حدثنا سعيد بن محمد بن إسحاق الصيرفي، حدثنا محمد بن عثمان بن أبي شيبة، حدثنا جبارة بن المغلس، حدثنا قيس بن الربيع، حدثنا عمرو بن مرة، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل، لتقرَّ بهم عينه‏"‏، ثم قرأ‏:‏ ‏"‏والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم‏"‏، إلى آخر الآية‏.‏

أخبرنا أبو سعيد الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق الثعلبي، أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، حدثنا أبو بكر بن مالك القطيعي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل، حدثني عثمان ابن أبي شيبة، حدثنا محمد بن فضيل عن محمد بن عثمان عن زاذان عن عليّ رضي الله عنه قال‏:‏ سألتْ خديجة رضي الله تعالى عنها النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن ولدين ماتا لها في الجاهلية، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏هما في النار‏"‏، فلما رأى الكراهة في وجهها، قال‏:‏ ‏"‏لو رأيتِ مكانهما لأبغضتهما‏"‏، قالت‏:‏ يا رسول الله فولدي منك‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏في الجنة‏"‏ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن المؤمنين وأولادهم في الجنة، وإن المشركين وأولادهم في النار‏"‏، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏والذين آمنوا واتَّبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم‏"‏‏.‏

‏{‏كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ كل امرئ كافر بما عمل من الشرك مرتهن في النار، والمؤمن لا يكون مرتهنًا، لقوله عز وجل‏:‏ ‏"‏كل نفس بما كسبت رهينة إلا أصحاب اليمين‏"‏، ثم ذكر ما يزيدهم من الخير والنعمة فقال‏:‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏22 - 26‏]‏

‏{‏وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ ‏(‏22‏)‏ يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا وَلا تَأْثِيمٌ ‏(‏23‏)‏ وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ ‏(‏24‏)‏ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ‏(‏25‏)‏ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ‏(‏26‏)‏‏}‏

‏{‏وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ‏}‏ زيادة على ما كان لهم، ‏{‏وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ‏}‏ من أنواع اللحمان‏.‏

‏{‏يَتَنَازَعُون‏}‏ يتعاطون ويتناولون، ‏{‏فِيهَا كَأْسًا لا لَغْوٌ فِيهَا‏}‏ وهو الباطل، وروي ذلك عن قتادة، وقال مقاتل بن حيان‏:‏ لا فضول فيها‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ لا رفث فيها‏.‏ وقال ابن زيد‏:‏ لا سباب ولا تخاصم فيها‏.‏ وقال القتيبي‏:‏ لا تذهب عقولهم فيلغوا ويرفثوا، ‏{‏وَلا تَأْثِيمٌ‏}‏ أي لا يكون منهم ما يؤثمهم‏.‏ قال الزجاج‏:‏ لا يجري بينهم ما يلغي ولا ما فيه إثم كما يجري في الدنيا لشربة الخمر‏.‏ وقيل‏:‏ لا يأثمون في شربها‏.‏

‏{‏وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ‏}‏ بالخدمة، ‏{‏غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ‏}‏ في الحسن والبياض والصفاء، ‏{‏لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ‏}‏ مخزون مصون لم تمسه الأيدي‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ يعني في الصدف‏.‏

قال عبدالله بن عمر‏:‏ وما من أحد من أهل الجنة إلا يسعى عليه ألف غلام، وكل غلام على عمل ما عليه صاحبه‏.‏

وروي عن الحسن أنه لما تلا هذه الآية قال‏:‏ قالوا يا رسول الله‏:‏ الخادم كاللؤلؤ المكنون، فكيف المخدوم‏؟‏‏.‏

وعن قتادة أيضًا قال‏:‏ ذكر لنا أن رجلا قال‏:‏ يا نبي الله هذا الخادم فكيف المخدوم‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب‏"‏‏.‏

‏{‏وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ‏}‏ يسأل بعضهم بعضًا في الجنة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يتذاكرون ما كانوا فيه من التعب والخوف في الدنيا‏.‏

‏{‏قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا‏}‏ في الدنيا ‏{‏مُشْفِقِينَ‏}‏ خائفين من العذاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27 - 32‏]‏

‏{‏فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ ‏(‏27‏)‏ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ‏(‏28‏)‏ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلا مَجْنُونٍ ‏(‏29‏)‏ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ‏(‏30‏)‏ قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ ‏(‏31‏)‏ أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا‏}‏ بالمغفرة، ‏{‏وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ‏}‏ قال الكلبي‏:‏ عذاب النار‏.‏ وقال الحسن‏:‏ ‏"‏السموم‏"‏ اسم من أسماء جهنم‏.‏

‏{‏إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ‏}‏ في الدنيا، ‏{‏نَدْعُوهُ‏}‏ نخلص له العبادة، ‏{‏إِنَّه‏}‏ قرأ أهل المدينة ‏[‏والكسائي‏]‏ ‏"‏أنه‏"‏ بفتح الألف، أي‏:‏ لأنه أو بأنه، وقرأ الآخرون بالكسر على الاستئناف، ‏{‏هُوَ الْبَرُّ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ اللطيف‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الصادق فيما وعد ‏{‏الرَّحِيمُ‏}‏‏.‏

‏{‏فَذَكِّرْ‏}‏ يا محمد بالقرآن أهل مكة، ‏{‏فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ‏}‏ برحمته وعصمته، ‏{‏بِكَاهِنٍ‏}‏ تبتدع القول وتخبر بما في غد من غير وحي، ‏{‏وَلا مَجْنُونٍ‏}‏ نزلت في الذين اقتسموا عِقَابَ مكة يرمون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكهانة والسحر والجنون والشعر‏.‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ‏}‏ بل يقولون، يعني‏:‏ هؤلاء المقتسمين الخراصين، ‏{‏شَاعِرٌ‏}‏ أي‏:‏ هو شاعر، ‏{‏نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ‏}‏ حوادث الدهر وصروفه فيموت ويهلك كما هلك من قبله من الشعراء، ويتفرق أصحابه وإن أباه مات شابًا ونحن نرجو أن يكون موته كموت أبيه، و‏"‏المنون‏"‏ يكون بمعنى الدهر، ويكون بمعنى الموت، سُمِّيَا بذلك لأنهما يقطعان الأجل‏.‏

‏{‏قُلْ تَرَبَّصُوا‏}‏ انتظروا بي الموت، ‏{‏فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ‏}‏ ‏[‏من المنتظرين‏]‏ حتى يأتي أمر الله فيكم، فعُذِّبوا يوم بدر بالسيف‏.‏

‏{‏أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ‏}‏ عقولهم، ‏{‏بِهَذَا‏}‏ وذلك أن عظماء قريش كانوا يُوصَفُون بالأحلام والعقول، فأزرى الله بعقولهم حين لم تتميز لهم معرفة الحق من الباطل، ‏{‏أَمْ هُمْ‏}‏ بل هم ‏{‏قَوْمٌ طَاغُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33 - 37‏]‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏33‏)‏ فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ ‏(‏34‏)‏ أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ‏(‏35‏)‏ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ ‏(‏36‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ ‏(‏37‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ‏}‏ أي‏:‏ يخلق القرآن من تلقاء نفسه، ‏"‏والتقول‏"‏، تكلف القول، ولا يستعمل إلا في الكذب، ليس الأمر كما زعموا، ‏{‏بَلْ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ بالقرآن استكبارًا‏.‏ ثم ألزمهم الحجة فقال‏:‏ ‏{‏فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ‏}‏، أي‏:‏ مثل القرآن ونظمه وحسن بيانه، ‏{‏إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ‏}‏ أن محمدًا يقوله من قِبَل نفسه‏.‏

‏{‏أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ من غير رَبٍّ، ومعناه‏:‏ أَخُلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق‏؟‏ وذلك مما لا يجوز أن يكون، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم، فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق، ‏{‏أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ‏}‏ لأنفسهم وذلك في البطلان أشد، لأن ما لا وجود له كيف يخلق‏؟‏

فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقًا فليؤمنوا به، ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي‏.‏

وقال الزجَّاج‏:‏ معناه‏:‏ أخلقوا باطلا لا يحاسبون ولا يؤمرون‏؟‏ وقال ابن كيسان‏:‏ أخلقوا عبثًا وتركوا سدى لا يؤمرون ولا ينهون، فهو كقول القائل‏:‏ فعلت كذا وكذا من غير شيء أي‏:‏ لغير شيء، أم هم الخالقون لأنفسهم فلا يجب عليهم لله أمر‏؟‏

‏{‏أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالأرْض‏}‏ فيكونوا هم الخالقين، ليس الأمر كذلك، ‏{‏بَل لا يُوقِنُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ‏}‏ قال عكرمة‏:‏ يعني النبوة‏.‏ قال مقاتل‏:‏ أبأيديهم مفاتيح ربك بالرسالة فيضعونها حيث شاؤوا‏؟‏ قال الكلبي‏:‏ خزائن المطر والرزق، ‏{‏أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ‏}‏ المسلطون الجبارون، قال عطاء‏:‏ أرباب قاهرون فلا يكونوا تحت أمر ونهي، يفعلون ما شاؤوا‏.‏ ويجوز بالسين والصاد جميعًا، قرأ ابن عامر بالسين هاهنا وقوله‏:‏ ‏"‏بمسيطر‏"‏، وقرأ حمزة بإشمام الزاي فيهما، وقرأ ابن كثير هاهنا بالسين و ‏"‏بمصيطر‏"‏ بالصاد، وقرأ الآخرون بالصاد فيهما‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38 - 42‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ ‏(‏38‏)‏ أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ ‏(‏39‏)‏ أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ ‏(‏40‏)‏ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ‏(‏41‏)‏ أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ ‏(‏42‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ‏}‏ مرقًى ومصعد إلى السماء، ‏{‏يَسْتَمِعُونَ فِيهِ‏}‏ أي يستمعون عليه الوحي، كقوله‏:‏ ‏"‏ولأصلبنكم في جذوع النخل‏"‏ ‏[‏طه - 71‏]‏ أي‏:‏ عليها، معناه‏:‏ ألهم سُلَّمٌ يرتقون به إلى السماء، فيستمعون الوحي ويعلمون أن ما هم عليه حق بالوحي، فهم مستمسكون به كذلك‏؟‏ ‏{‏فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ‏}‏ إن ادعوا ذلك، ‏{‏بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ‏}‏ حجة بينة‏.‏

‏{‏أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ‏}‏ هذا إنكار عليهم حين جعلوا لله ما يكرهون، كقوله‏:‏ ‏"‏فاستفتهم ألربك البنات ولهم البنون‏"‏ ‏[‏الصافات - 149‏]‏‏.‏

‏{‏أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا‏}‏ جُعْلا على ما جئتهم به ودعوتهم إليه من الدين، ‏{‏فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ‏}‏ أثقلهم ذلك المغرم الذي تسألهم، فمنعهم من ذلك عن الإسلام‏.‏

‏{‏أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ‏}‏ أي‏:‏ علم ما غاب عنهم، حتى علموا أن ما يخبرهم الرسول من أمر القيامة والبعث باطل‏.‏

وقال قتادة‏:‏ هذا جواب لقولهم‏:‏ ‏"‏نتربص به ريب المنون‏"‏، يقول‏:‏ أعندهم علم الغيب حتى علموا أن محمدًا صلى الله عليه وسلم يموت قبلهم‏؟‏ ‏{‏فَهُمْ يَكْتُبُونَ‏}‏ أي‏:‏ يحكمون، والكتاب‏:‏ الحكم، قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجلين اللذين تخاصما إليه‏:‏ ‏"‏أقضي بينكما بكتاب الله‏"‏ أي بحكم الله‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ معناه أم عندهم اللوح المحفوظ فهم يكتبون ما فيه ويخبرون الناس به‏؟‏

‏{‏أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا‏}‏ مكرًا بك ليهلكوك‏؟‏ ‏{‏فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ‏}‏ أي‏:‏ هم المجزيون بكيدهم، يريد أن ضرر ذلك يعود عليهم، ويحيق مكرهم بهم، وذلك أنهم مكروا به في دار الندوة فقتلوا ببدر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏43 - 48‏]‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ‏(‏43‏)‏ وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ‏(‏44‏)‏ فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ ‏(‏45‏)‏ يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ‏(‏46‏)‏ وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ‏(‏47‏)‏ وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ ‏(‏48‏)‏‏}‏

‏{‏أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ‏}‏ يرزقهم وينصرهم‏؟‏ ‏{‏سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ قال الخليل‏:‏ ما في هذه السورة من ذكر ‏"‏أم‏"‏ كله استفهام وليس بعطف‏.‏

‏{‏وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا‏}‏ قطعة، ‏{‏مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا‏}‏ هذا جواب لقولهم‏:‏ ‏"‏فأسقط علينا كسفًا من السماء‏"‏، يقول‏:‏ لو عذبناهم بسقوط بعض من السماء عليهم لم ينتهوا عن كفرهم، ‏{‏يَقُولُوا‏}‏- لمعاندتهم - هذا، ‏{‏سَحَابٌ مَرْكُومٌ‏}‏ بعضه على بعض يسقينا‏.‏

‏{‏فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا‏}‏ يعاينوا، ‏{‏يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ‏}‏ أي‏:‏ يموتون، حتى يعاينوا الموت، قرأ ابن عامر وعاصم يصعقون بضم الياء، أي‏:‏ يهلكون‏.‏

‏{‏يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ‏}‏ أي‏:‏ لا ينفعهم كيدهم يوم الموت ولا يمنعهم من العذاب مانع‏.‏

‏{‏وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا‏}‏ ‏[‏كفروا‏]‏ ‏{‏عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ‏}‏ أي‏:‏ عذابًا في الدنيا قبل عذاب الآخرة‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ يعني القتل يوم بدر، وقال الضحاك‏:‏ هو الجوع والقحط سبع سنين‏.‏ وقال البراء بن عازب‏:‏ هو عذاب القبر‏.‏ ‏{‏وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ‏}‏ أن العذاب نازل بهم‏.‏

‏{‏وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ‏}‏ إلى أن يقع بهم العذاب الذي حكمنا عليهم، ‏{‏فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا‏}‏ أي بمرأىً مِنَّا، قال ابن عباس‏:‏ نرى ما يُعْمَلُ بك‏.‏ وقال الزجَّاج‏:‏ إنك بحيث نراك ونحفظك فلا يصلون إلى مكروهك‏.‏ ‏{‏وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ‏}‏ قال سعيد بن جبير وعطاء‏:‏ أي‏:‏ قل حين تقوم من مجلسك‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيرًا ازددت فيه إحسانًا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له‏.‏

أخبرنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله بن أحمد القفال، أخبرنا أبو منصور أحمد بن الفضل البَرْوَنْجِرْدي، أخبرنا أبو أحمد بكر بن محمد الصيرفي، حدثنا أحمد بن عبدالله القرشي، حدثنا حجاج بن محمد عن ابن جريج، عن موسى بن عقبة، عن سهيل بن أبي صالح، عن أبيه، عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من جلس مجلسًا وكثر فيه لَغَطُهُ، فقال قبل أن يقوم‏:‏ سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، إلا كان كفارة لما بينهما‏"‏‏.‏

وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ معناه صَلِّ لله حين تقوم من مقامك‏.‏

وقال الضحاك والربيع‏:‏ إذا قمت إلى الصلاة فقل‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو عثمان الضبي، أخبرنا أبو محمد الجراحي، حدثنا أبو العباس المحبوبي، حدثنا أبو عيسى الترمذي، حدثنا الحسن بن عرفة ويحيى بن موسى قال‏:‏ حدثنا أبو معاوية عن حارثة بن أبي الرجال، عن عمرة عن عائشة قالت‏:‏ كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا افتتح الصلاة قال‏:‏ ‏"‏سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك‏"‏‏.‏

وقال الكلبي‏:‏ هو ذكر الله باللسان حين تقوم من الفراش إلى أن تدخل في الصلاة‏.‏

أخبرنا أبو طاهر عمر بن عبد العزيز القاشاني، أخبرنا أبو عمر القاسم بن جعفر بن عبد الواحد الهاشمي، أخبرنا أبو علي محمد بن أحمد بن عمر اللؤلؤي، حدثنا أبو داود سليمان بن الأشعث، حدثنا محمد بن نافع، حدثنا زيد بن حباب، أخبرني معاوية بن صالح، أخبرنا أزهر بن سعيد الحرازي عن عاصم بن حميد قال‏:‏ سألت عائشة رضي الله تعالى عنها بأي شيء كان يفتتح رسول الله صلى الله عليه وسلم قيام الليل‏؟‏ فقالت‏:‏ كان إذا قام كَبَّرَ الله عشرًا، وحمد الله عشرا، وسبح الله عشرًا، وهلل عشرًا، واستغفر عشرًا، وقال‏:‏ اللهم اغفر لي واهدني وارزقني وعافني، ويتعوذ من ضيق المقام يوم القيامة‏"‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏49‏]‏

‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ ‏(‏49‏)‏‏}‏

‏{‏وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ‏}‏ أي‏:‏ صلِّ له، قال مقاتل‏:‏ يعني صلاة المغرب والعشاء‏.‏ ‏{‏وَإِدْبَارَ النُّجُومِ‏}‏ يعني الركعتين قبل صلاة الفجر، وذلك حين تدبر النجوم أي تغيب بضوء الصبح، هذا قول أكثر المفسرين‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو فريضة صلاة الصبح‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي، أخبرنا زاهر بن أحمد، أخبرنا أبو إسحاق الهاشمي، أخبرنا أبو مصعب، عن مالك، عن ابن شهاب، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه أنه قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ في المغرب بالطور‏.‏